فصل: قال ابن الجوزي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الفخر:

اعلم أن ظاهر قوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ} يقتضي حل كل من سوى الأصناف المذكورة.
إلا أنه دل الدليل على تحريم أصناف أخر سوى هؤلاء المذكورين ونحن نذكرها.
الصنف الأول: لا يجمع بين المرأة وبين عمتها وخالتها، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها» وهذا خبر مشهور مستفيض، وربما قيل: إنه بلغ مبلغ التواتر، وزعم الخوارج أن هذا خبر واحد، وتخصيص عموم القرآن بخبر الواحد لا يجوز، واحتجوا عليه بوجوه: الأول: أن عموم الكتاب مقطوع المتن ظاهر الدلالة، وخبر الواحد مظنون المتن ظاهر الدلالة، فكان خبر الواحد أضعف من عموم القرآن، فترجيحه عليه بمقتضى تقديم الأضعف على الأقوى وإنه لا يجوز.
الثاني: من جملة الأحاديث المشهورة خبر معاذ، وإنه يمنع من تقديم خبر الواحد على عموم القرآن من وجهين لأنه قال: بم تحكم؟ قال بكتاب الله، قال: فإن لم تجد قال: بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقدم التمسك بكتاب الله على التمسك بالسنة، وهذا يمنع من تقديم السنة على الكتاب، وأيضا فإنه قال: فإن لم تجد قال: بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، علق جواز التمسك بالسنة على عدم الكتاب بكلمة إن وهي للاشتراط، والمعلق على الشرط عدم عند عدم الشرط.
الثالث: أن من الأحاديث المشهورة قوله عليه الصلاة والسلام: «إذا روي لكم عني حديث فاعرضوه على كتاب الله فإن وافقه فاقبلوه وإلا فردوه» فهذا الخبر يقتضي أن لا يقبل خبر الواحد إلا عند موافقة الكتاب، فإذا كان خبر العمة والخالة مخالفا لظاهر الكتاب وجب رده.
الرابع: أن قوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ} مع قوله عليه السلام: لا تنكح المرأة على عمتها لا يخلو الحال فيهما من ثلاثة أوجه: إما أن يقال: الآية نزلت بعد الخبر، فحينئذ تكون الآية ناسخة للخبر لأنه ثبت أن العام إذا ورد بعد الخاص كان العام ناسخا للخاص، وإما أن يقال: الخبر ورد بعد الكتاب، فهذا يقتضي نسخ القرآن بخبر الواحد وإنه لا يجوز، وإما أن يقال: وردا معا، وهذا أيضا باطل لأن على هذا التقدير تكون الآية وحدها مشتبهة، ويكون موضع الحجة مجموع الآية مع الخبر، ولا يجوز للرسول المعصوم أن يسعى في تشهير الشبهة ولا يسعى في تشهير الحجة، فكان يجب على الرسول صلى الله عليه وسلم أن لا يسمع أحدا هذه الآية إلا مع هذا الخبر، وأن يوجب إيجابا ظاهرا على جميع الأمة أن لا يبلغوا هذه الآية أحد إلا مع هذا الخبر، ولو كان كذلك لزم أن يكون اشتهار هذا الخبر مساويا لاشتهار هذه الآية، ولما لم يكن كذلك علمنا فساد هذا القسم.
الوجه الخامس: أن بتقدير أن تثبت صحة هذا الخبر قطعا، إلا أن التمسك بالآية راجح على التمسك بالخبر.
وبيانه من وجهين: الأول: أن قوله: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ} نص صريح في التحليل كما أن قوله: {حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ} نص صريح في التحريم.
وأما قوله: «لا تنكح المرأة على عمتها» فليس نصا صريحا لأن ظاهره إخبار، وحمل الاخبار على النهي مجاز، ثم بهذا التقدير فدلالة لفظ النهي على التحريم أضعف من دلالة لفظ الاحلال على معنى الاباحة.
الثاني: أن قوله: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ} صريح في تحليل كل ما سوى المذكورات، وقوله: «لا تَنْكِحَ المرأة على عمتها» ليس صريحا في العموم، بل احتماله للمعهود السابق أظهر.
الوجه السادس: أنه تعالى استقصى في هذه الآية شرح أصناف المحرمات فعد منها خمسة عشر صنفا، ثم بعد هذا التفصيل التام والاستقصاء الشديد قال: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ} فلو لم يثبت الحل في كل من سوى هذه الأصناف المذكورة لصار هذا الاستقصاء عبثا لغوا، وذلك لا يليق بكلام أحكم الحاكمين، فهذا تقرير وجوه السؤال في هذا الباب.
والجواب على وجوه: الأول: ما ذكره الحسن وأبو بكر الأصم، وهو أن قوله: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ} لا يقتضى إثبات الحل على سبيل التأبيد، وهذا الوجه عندي هو الأصح في هذا الباب، والدليل عليه أن قوله: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ} إخبار عن إحلال كل ما سوى المذكورات وليس فيه بيان أن إحلال كل ما سوى المذكورات وقع على التأبيد أم لا، والدليل على أنه لا يفيد التأبيد: أنه يصح تقسيم هذا المفهوم إلى المؤبد وإلى غير المؤبد، فيقال تارة: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ} أبدًا، وأخرى {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ} إلى الوقت الفلاني، ولو كان قوله: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ} صريحا في التأييد لما كان هذا التقسيم ممكنا، ولأن قوله: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ} لا يفيد إلا إحلال من سوى المذكورات وصريح العقل يشهد بأن الاحلال أعم من الاحلال المؤبد ومن الاحلال المؤقت، إذا ثبت هذا فنقول: قوله: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ} لا يفيد إلا حل من عدا المذكورات في ذلك الوقت، فأما ثبوت حلهم في سائر الأوقات فاللفظ ساكت عنه بالنفي والاثبات، وقد كان حل من سوى المذكورات ثابتا في ذلك الوقت، وطريان حرمة بعضهم بعد ذلك لا يكون تخصيصا لذلك النص ولا نسخا له، فهذا وجه حسن معقول مقرر.
وبهذا الطريق نقول أيضا: إن قوله: {حُرّمَتْ عَلَيْكُمْ أمهاتكم} [النساء: 23] ليس نصا في تأبيد هذا التحريم، وإن ذلك التأبيد إنما عرفناه بالتواتر من دين محمد صلى الله عليه وسلم، لا من هذا اللفظ، فهذا هو الجواب المعتمد في هذا الموضع.
الوجه الثاني: أنا لا نسلم أن حرمة الجمع بين المرأة وبين عمتها وخالتها غير مذكورة في الآية وبيانه من وجهين: الأول: أنه تعالى حرم الجمع بين الأختين، وكونهما أختين يناسب هذه الحرمة لأن الأختية قرابة قريبة، والقرابة القريبة تناسب مزيد الوصلة والشفقة والكرامة، وكون إحداهما ضرة الأخرى يوجب الوحشة العظيمة والنفرة الشديدة، وبين الحالتين منافرة عظيمة، فثبت أن كونها أختًا لها يناسب حرمة الجمع بينهما في النكاح، وقد ثبت في أصول الفقه ان ذكر الحكم مع الوصف المناسب له، يدل بحسب اللفظ على كون ذلك الحكم معللا بذلك الوصف فثبت أن قوله: {وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الاختين} [النساء: 23] يدل على كون القرابة القريبة مانعة من الجمع في النكاح، وهذا المعنى حاصل بين المرأة وعمتها أو خالتها، فكان الحكم المذكور في الأختين مذكورا في العمة والخالة من طريق الدلالة، بل هاهنا أولى، وذلك لأن العمة والخالة يشبهان الأم لبنت الأخ ولبنت الأخت، وهما يشبهان الولد للعمة والخالة، واقتضاء مثل هذه القرابة لترك المضارة أقوى من اقتضاء قرابة الأختية لمنع المضارة، فكان قوله: {وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الاختين} مانعا من العمة والخالة بطريق الأولى.
الثاني: أنه نص على حرمة التزوج بأمهات النساء فقال: {وأمهات نِسَائِكُمْ} [النساء: 23] ولفظ الأم قد ينطلق على العمة والخالة، أما على العمة فلأنه تعالى قال مخبرا عن أولاد يعقوب عليه السلام: {نَعْبُدُ إلهك وإله آبَائِكَ إبراهيم وإسماعيل} [البقرة: 133] فأطلق لفظ الأب على اسمعيل مع أنه كان عما، وإذا كان العم أبًا لزم أن تكون العمة أمًا، وأما إطلاق لفظ الأم على الخالة فيدل عليه قوله تعالى: {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى العرش} [يوسف: 100] والمراد أبوه وخالته، فإن أمه كانت متوفاة في ذلك الوقت، فثبت بما ذكرنا أن لفظ الأم قد ينطلق على العمة والخالة، فكان قوله: {وأمهات نِسَائِكُمْ} متناولا للعمة والخالة من بعض الوجوه.
وإذا عرفت هذا فنقول: قوله: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ} المراد ما وراء هؤلاء المذكورات سواء كن مذكورات بالقول الصريح أو بدلالة جلية، أو بدلالة خفية، وإذا كان كذلك لم تكن العمة والخالة خارجة عن المذكورات.
الوجه الثالث: في الجواب عن شبهة الخوارج أن نقول: قوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ} عام، وقوله: «لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها» خاص، والخاص مقدم على العام، ثم هاهنا طريقان: تارة نقول: هذا الخبر بلغ في الشهرة مبلغ التواتر، وتخصيص عموم القرآن بخبر المتواتر جائز، وعندي هذا الوجه كالمكابرة، لأن هذا الخبر وإن كان في غاية الشهرة في زماننا هذا لكنه لما انتهى في الأصل إلى رواية الآحاد لم يخرج عن أن يكون من باب الآحاد.
وتارة نقول: تخصيص عموم الكتاب بخبر الواحد جائز، وتقريره مذكور في الأصول، فهذا جملة الكلام في هذا الباب، والمعتمد في الجواب عندنا الوجه الأول.
الصنف الثالث: من التخصيصات الداخلة في هذا العموم: أن المطلقة ثلاثا لا تحل، إلا أن هذا التخصيص ثبت بقوله تعالى: {فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حتى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230].
الصنف الرابع: تحريم نكاح المعتدة، ودليله قوله تعالى: {والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثلاثة قُرُوء} [البقرة: 228].
الصنف الخامس: من كان في نكاحه حرة لم يجز له أن يتزوج بالأمة، وهذا بالاتفاق.
وعند الشافعي: القادر على طول الحرة لا يجوز له نكاح الأمة، ودليل هذا التخصيص قوله: {وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلًا أَن يَنكِحَ المحصنات المؤمنات فَمِنْ مَّا مَلَكَتْ أيمانكم} [النساء: 25] وسيأتي بيان دلالة هذه الآية على هذا المطلوب.
الصنف السادس: يحرم عليه التزوج بالخامسة، ودليله قوله تعالى: {مثنى وثلاث وَرُبَاعَ} [النساء: 3].
الصنف السابع: الملاعنة: ودليله قوله عليه الصلاة والسلام: «المتلاعنان لا يجتمعان أبدًا». اهـ.

.قال ابن الجوزي:

قال شيخنا علي بن عبيد الله: وعامة العلماء ذهبوا إِلى أن قوله: {وأحل لكم ما وراء ذلكم} تحليل ورد بلفظ العموم، وأنه عموم دخله التخصيص، والمخصص له نهي النبي صلى الله عليه وسلم أن تنكح المرأة على عمتها، أو على خالتها.
وليس هذا على سبيل النسخ.
وذهب طائفة إلى أن التحليل المذكور في الآية منسوخ بهذا الحديث. اهـ.

.قال الفخر:

قوله: {أَن تَبْتَغُواْ} في محله قولان: الأول: أنه رفع على البدل من ما والتقدير: وأحل لكم ما وراء ذلكم وأحل لكم أن تبتغوا، على قراءة من قرأ {وأحل} بضم الألف. ومن قرأ بالفتح كان محل {أن تبتغوا} نصبا.
الثاني: أن يكون محله على القراءتين النصب بنزع الخافض كأنه قيل: لأن تبتغوا، والمعنى: وأحل لكم ما وراء ذلكم لارادة أن تبتغوا بأموالكم وقوله: {مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مسافحين} أي في حال كونكم محصنين غير مسافحين، وقوله: {مُّحْصِنِينَ} أي متعففين عن الزنا، وقوله: {غَيْرَ مسافحين} أي غير زانين، وهو تكرير للتأكيد.
قال الليث: السفاح والمسافحة الفجور، وأصله في اللغة من السفح وهو الصب يقال: دموع سوافح ومسفوحة، قال تعالى: {أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا} [الإنعام: 145] وفلان سفاح للدماء أي سفاك، وسمي الزاني سفاحا لأنه لا غرض للزاني إلا سفح النطفة.
فإن قيل: أين مفعول تبتغوا؟
قلنا: التقدير: وأحل لكم ما وراء ذلكم لإرادة أن تبتغوهن، أي تبتغوا ما وراء ذلكم، فحذف ذكره لدلالة ما قبله عليه والله أعلم. اهـ.